
600 يوم..
انظروا إلى كتفي المثقل بخسائر تعجز الجبال عن حملها… حالي كحال أبناء شعبي، بل إنني أهونهم مصابًا، فقد فقدت والدي، وأخوالي، وأصدقائي، وأقاربي، وزملائي، ومنزلي، وأكثر من ذلك بكثير.
دقّقوا في ملامح هذا الوجه..
ستجدون خطوطا خُطّت مذ مذبحة جباليا الأولى والعاشرة، إلى مذابح المعمداني والشفاء وكمال عدوان والإندونيسي، إلى مذابح الشمال التي لم تتوقف.
ستجدون ندبات كل قصّة لطفل وعائلة ومحرقة ومناشدة تحت الأنقاض وفوقها.
أما أذناي.. فكم تجرّعت أصوات استغاثات لو سمعها أحدكم لخرّ من طوله قهراً، لذابت أذنيه من هول ما تسمع.
600 يوم..
اليوم فيه بسنة وألف مما تعدون، كل ثانية فيه لي معها ذكرى، مبالغة؟! كلاّ، أما تعرفون أن الثانية في حساب غزة منذ 600 يوم، فيها شهيد، أو جريح، أو تدمير منزل أو محرقة، أو عذاب قلب، وانطفاء روح؟!
600 يوم..
الدرع الذي يُثقل قلبي قبل جسدي، من أحمله وأعلم ألا فائدة منه، هو بطاقة تعريف ووسيلة حماية في عُرفكم، لكنه شاخص للطائرات عندنا.. متى لمحت صاحبها صاحب الصوت الذي لا يهدأ، تغتاله.. هكذا رحل إسماعيل، وحسام، وسامر، وحمزة، وأصيب فادي وغيرهم كثر.
600 يوم..
ويدي تتشبث في المايك، تشبث الجذور بالأرض، كلٌ يروي الآخر بطريقته، اليوم أرويه بصوت لا يذبل، بعزيمة لا تصدأ، ويمدّني هو بدافع المواصلة وإن كانت الروح ضريبة.
600 يوم..
وما أقسى الضريبة، وما أكبر الثمن، الذي دفعه رفاق الحبر والصورة والقلم، كان التهديد فيها مباشرا "توقفوا.. لا توثقوا.. وإلا قُتلتم"، وكان ردنا، توثيق وصل حدّ البث المباشر للمذابح أمام عالم يرى دماء غزة ماء، وجثامين شهدائها دُمى.
600 يوم، وكلما أغمضت عيناي لساعات بل دقائق قليلة، أحلم بذات الخبر.. "انتهاء الحرب بالكامل"، أذعته مرّة، وذاب أثره.. ولا زال الحلم أن أُذيعة مرة ثانية وإلى الأبد، هذه المرة سأقول "توقف الجحيم للأبد".
600 يوم.. كنت فيها صوتا لغزة، تعب مرّات، وخُذل أكثر.. صرخت كثيراً، وخُذلنا أكثر، فاض دمعنا كثيراً، وخُذلنا أكثر.
600 يوم.. ويا رب، تنتهي الحرب بلا رجعة.. ويطل صوتي عليكم في خاتمة كل إطلالة "أنس الشريف - الجزيرة - غزة"، وأبتسم.