في ذكرى 12/12 بقلم الأستاذ / المرتضى محمد اشفق | البشام الإخباري

  

   

في ذكرى 12/12 بقلم الأستاذ / المرتضى محمد اشفق

البشام الإخباري / في كل مرة يجيء خليفة جديد، فيقول الناس هذا يوم عيد، عاش عهد التغيير والتجديد، ثم يخرج في حاشيته، ويقول من نصب هذا العمود، فيقول الناس سلفك يا أمير المؤمنين لك العز والنصر والتأييد، فيقول لهم أسقطوه، كيف ينصب العمود، ثم يقول من أسقط هذا العمود، فيقولون أسلافك أعزك الله ورعاك، فيقول أقيموه لماذا يسقط العمود، فتصيح الرعية عشت يا صاحب الطلعة البهية، وحامل الهمة العلية، عاش إنجاز سقوط العمود، وتنطلق مبادرات دعم رفع العمود، ومسيرات تثمين إسقاط العمود.. ثم يتوقف أمير المؤمنين قرب المغسلة فيقول من جعل رأس هذا السهم إلى الشمال، فيقولون أسلافك يا نصرك الله، فيقول ما هذ الغباء، غيروا اتجاهه إلى الجنوب، فتسيل البطحاء شعرا، وتتصدع الجبال مسيرات وخطبا، احتفاء بتوجيه السهم إلى الجنوب...

ثم يصيح الخليفة أيتها الرعية الغبية، وأصل كل نكبة وبلية، من صبغ هذه المنارة بالأصفر، فيقول الناس سلف أمير المؤمنين نحن فداك يا مظفر، فيقول غيروه إلى الأبيض، فتصطف الخيول، والجمال، وتنقر الدفوف ابتهاجا بتغيير الأصفر إلى الأبيض، ثم يسأل عن فلان فيقول الناس غضب عليه سلفك فأبعده وجفاه، فيقول رضينا عنه قربوه وأكرموه، فتتفجر الألعاب النارية تأييدا لرضا الأمير عمن غضب عليهم سلفه، ثم يسأل عن فلان فتقول الحاشية هو على السرير ميت أو كالميت، نحن فداك، فيقول أحيوه بمكرمة واجعلوا في فمه بالعوة تسمين، ثم يسأل عن فلان ابن فلان فتصيح الحاشية، إنه بنعم الحال، أعزه سلفك، وقدمه، فيقول أقيلوه، لا سلم من قربه وكرمه، ثم يسأل عن كذا وكذا، فيقال نُسِخ بكذا وكذا، فيقول انسخوه بكذا وكذا....

ثم تتوالى مبادرات دعم النسخ بكذا بكذا..

دجمبر يا سوطا مكهربة هوت

ممزقة خجلى جوانبها الحمر

دجمبر يا قضبان سجن تساقطت

وكم كان لا يسْطيع أن يعلو النسر

دجمبر يا جَبر المهيض جناحه

وقبلك لم يحلم بأن يبرأ الكسر

دجمبر يا خلا تلقى خليله

ولا حقد منه يختشيه ولا غدر

دجمبر يا أما تضم وحيدها

وقد فرق الإلفين من غيه القهر

دجمبر يا أمن المحدث أهله

وقبلك لا ينجيه سر ولا جهر

دجمبر يا عود الغريب لأرضه

بهيجا قد احلولى له القابض المر

دجمبر يا رقص الصغار ولهوهم

ويا مأمن السمار إن طلع البدر

دجمبر يا حلم الشيوخ يرونه

وقد شابت الأيام وانفلت العمر

دجمبر أنت اليوم فتح وعزة

وعهد على الأحرار ما حيي الذكر

قلتها في انواكشوط 1984

لم يعمر ولد هيداله في الحكم طويلا ...لم أنس وأنا تلميذ في الثالث الإعدادي صوت المصطفى ولد محمد السالك رحمه الله يقرأ بتحسر وألم (...وما تدري نفس ما ذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت) نعيا لولد بو سيف رحمه الله الذي سافر إلى داكار في يوم عاصف وسقطت طائرته في البحر...اختفى ولد محمد السالك وسمعنا الإذاعة تتحدث عن رجل اسمه محمد محمود ولد احمد لولي لكنه كان كريما فمر بسرعة ليستوي ربان السفينة الجديد في قمرة القيادة : رجل اسمه محمد خونه ولد هيداله...لن أتحدث عن الرجل كثيرا لكن رحيله كان فتحا عظيما ...كان وقفا لنحيب ولهيب ووجيب ...مارس جلادوه أقذر ما توصلت إليه آلة البطش لدى استخبارات الأنظمة المستبدة المتخصصة في قمع الشعوب ووأد الكرامة البشرية بأبشع صور التعذيب و الإهانة والوحشية ...وكان الموت أحيانا أرحم ببعض ضيوف الكلاب البشرية حين ينتزعهم من أنيابهم الخبيثة المتلذذة بتمزيق اللحم الآدمي ،

دجمبر 1984 كنا نتحلق حول تلفاز الجيران لمشاهدة أي شيء تعرضه الشاشة الصغيرة...لا نفرق بين قديم المسلسلات المصرية وتلاوة الحصري والأفلام الكرتونية ...في تلك الليلة ظهرت نشرة الأخبار المصورة..ولد هيداله يصعد سلم الطائرة متوجها إلى بوجمبوره لحضور مؤتمر الفرانكوفونية..ولد الطائع عند سفح السلم يودع الرئيس بتحية عسكرية منضبطة كأنه تمثال..ما كان أمير البلاد يدري أنها تحية الوداع الأخيرة..أثناء صعود هيداله للسلم عثر وكاد يسقط لأن رجله وطئت طرف دراعته..تغلب على الحالة وواصل الصعود..وراءنا عجوز (أم صديقي) تحرر حبات سبحتها بالاستغفار قالت لما واصل صعود السلم بعد عثرته: ( مر..لكنت ابعقلك ترجع)..لم نلق لها بالا..لا شك أن صديقي لم يستطب تعليق أمه على التلفاز..يوم الأربعاء الساعة الثانية إلا ربعا، والإذاعة تبث برنامج الأدب الشعبي قطعه صوت مضطرب..يرتجف..يقرأ لائحة مزج فيها بين رتب بعض الضباط ووظائفهم..لم يتغلب على ارتباكه إلا بعد جهد، لنسمع أن اللجنة العسكرية للخلاص الوطني برئاسة العقيد معاوية ولد سيد احمد الطائع استعادت حكم البلاد من نظام بائد ومستبد..تذكرت تعليق المرأة وطيرتها من عثرة الرجل..

كان انواكشوط في تلك الأيام عاصمة الرعب، كان يشبه مدينة منكوبة حل بها وباء فتاك، والموت ضيف منتظر يدخل بلا استئذان، كل شيء موحش، الشوارع مظلمة وخالية إلا من ذئاب بشرية تتوقد شرها للانقضاض على فريسة برئية ...وهم في الغالب من غير المعمرين في الحياة الدراسية..فيعوضون الأمية بالسادية والانتقامية من كل من يميز بين الباء والياء..الناس يعيشون بعض مشاهد يوم القيامة..المرء يفر من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض جميعا كي ينجو من تلفيق فجور سياسي فيه تطاول على قداسة أمير البلاد...

سقط ولد هيداله..وانتكس سدنة المعبد الأثيم..احتفلت سماء العاصمة بألعاب نارية بديعة الألوان ..خرجت الجماهير في مسيرات ابتهاج وحبور عفوية وتلقائية صادقة لأنها لم تطبخ على نيران سياسية ينفخ كيرها فاعل سياسي مجرور أو مضاف أو منصوب بنزع الخافض..

كانت السياسة في تلك الحقبة عملا سريا..يتشكل في رحم الفرص المتاحة والمحفوفة بالمغامرة وترصد زوار العتمة والفجر الكاذب..لكنها في مرحلة الجنينية تلك لم تلجأ إلى المسوح القبيحة..لم تستعمل " اكريمات " القبلية والجهوية والشرائحية والعرقية..الديمقراطية المحنة حولت السياسة اليوم إلى مومس لا ترد كف لامس...