تحليل: هل يتجاوز العراق أزمة مالية غير مسبوقة في تاريخه؟ | البشام الإخباري

  

   

تحليل: هل يتجاوز العراق أزمة مالية غير مسبوقة في تاريخه؟

البشام الإخباري/ دخل العراق أزمة مالية خانقة تحرمه حتى من دفع رواتب موظفي الدولة. في هذه الأثناء ليس أمام حكومة مصطفى الكاظمي سوى مزيد من الاقتراض الذي يرّحل المشكلة حتى القيام بإصلاحات مؤلمة، أين تكمن الأولوية هنا، وهل من فرصة للإصلاح؟

أخيرا وبعد جدال ساده العقم والمناورات السياسية الفئوية والضيقة صوّت البرلمان على قانون تمويل العجز المالي الذي يسمح للحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي اقتراض نحو 10 مليارات دولار إضافية لتمويل العجز غير المسبوق الذي تعاني منه بسبب تبعات كورونا وتدني أسعار النفط.

تقارير إذاعية وتلفزيونية متعلقة بالموضوع

وبهذا الاقتراض يمكن للحكومة دفع رواتب وأجور الموظفين الحكوميين المتأخرة حتى نهاية العام الجاري. وإذا كان قرار البرلمان يحل مشكلة التأخير في دفع الرواتب بشكل مؤقت، فإنه مشكلة جديدة نشأت بسببه مع الأطياف السياسية الكردية التي رفضت القرار. ويعود هذا الرفض لأن القانون يربط دفع رواتب الموظفين الحكوميين في إقليم كردستان بحصول الحكومة المركزية في بغداد على حصتها من بيع نفط الحقول النفطية الواقعة في الإقليم بموجب اتفاق مع حكومة الأخير. لكن وبعيدا عن تفاصيل الإشكالات العالقة بين الحكومة المركزية والإقليم ومن بينها شروط دفع الرواتب، فإن السؤال الأكثر إلحاحا على مستوى العراق ككل هو، إلى أي حد يمكن من خلال الاقتراض حل مشكلة قلة السيولة المالية التي تسبب مشاكل جديدة كمشكلة عدم القدرة على دفع 

أزمة غير مسبوقة في تاريخ العراق

يمر العراق بأزمة مالية خانقة بسبب تبعات كورونا وتدني أسعار النفط التي خفضت عائدات الحكومة العراقية إلى النصف. وقد تراكم العجز لدرجة أن الحكومة لم تتمكن منذ نحو شهرين من دفع رواتب موظفيها لأول مرة في تاريخ العراق. كما ام تتمكن من مستحقات ديونها للشركات والدائنين في الخارج والمقدرة بنحو 136 مليار دولار. ويزيد الطين بلة أن الاحتياطات المالية محدودة، إذ لم يتبق منها سوى حوالي 33 مليار دولار حسب توقعات مؤسسة التجارة الخارجية والاستثمار الألمانية. وهو مبلغ لا يمكن التضحية به لأن ذلك يعني البقاء بدون مال لحالات الطوارئ والكوارث والأحداث الخطيرة التي يمكن أن تحصل في أية لحظة. كما تفتقد البلاد إلى نظام ضريبي يتم تطبيقه حسب دخل كل فئة من فئات المجتمع العراقي الذي نشأت فيه فئات غنية ريعية اغتنت من الفساد وهدر المال العام ولا تدفع ضرائب. ويقف على رأس هذه الفئة كبار موظفي الدولة الذين يشكلون لوحدهم جيشا من الموظفين لكل طيف من أطياف العراق السياسية وما أكثرها حصة فيه. وعلى واقع هذا الحال فإن الاقتراض الجديد بنحو عشرة مليارات لم يحل بالكاد سوى جزء يسير من مشكلة العجز الذي يزداد تفاقما على وقع أسعار النفط وجائحة كورونا، ما يعني ترحيل المشاكل إلى العام القادم 2021. لكن السؤال ماذا بعد؟

الاقتراض كحل مؤقت فقط

ومع اقتراب العام الحالي من نهايته، لا يبدو أن أمام حكومة مصطفى الكاظمي في العام المقبل أو على المدى القصير من خيارات سوى مزيد من الاقتراض إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أسعار النفط لا تميل إلى التحسن بسرعة تبعات جائحة كورونا الكارثية على الاقتصاد العالمي. ويعتمد العراق في ميزانيته على النفط بنسبة تزيد على 95 بالمائة. غير أن الاقتراض المتسارع في الحالة العراقية قد يتحول إلى مشكلة مزمنة ندرا للعجز المتنامي بسرعة وعدم توفر مصادر دخل غير النفط للوفاء بأقساط الدين ،لاسيما وأن القطاع الخاص ضعيف جدا. كما أن الاعتماد على الديون يساعد على تكريس البنية الاقتصادية القائمة على ريع النفط وعلى التضخم المفرط والشاذ في أعداد موظفي الدولة والمتقاعدين التابعين لها والذين يزيد عددهم على 7 ملايين. وللمقارنة فإن الحكومة الأمريكية بكل إمكاناتها وثرواتها الهائلة مسؤولة فقط عن 4 ملايين موظف. وتحتاج الحكومة العراقية إلى أكثر من أربعة مليارات دولار شهريا للوفاء بالتزاماتها إزاء موظفيها ومتقاعديها، في وقت تراجعت فيه ايراداتها الشهرية إلى نحو 3,2 مليار دولار بعدما زادت على 6 مليارات قبل جائحة كورونا. الجدير ذكره أن حصة الرواتب كانت 20 بالمائة من عائدات النفط في عام 2004، بينما تشكل اليوم أكثر من 100 بالمائة من هذه العائدات.

أين تكمن الكلمة السحرية في إيجاد حل؟

وإضافة إلى أن الاعتماد على الديون يكرّس البنية الاقتصادية الشاذة، فإن للديون حدود لا يمكن تجاوزها في العراق الذي يعاني أصلا من مشكلة الديون قبل السماح للحكومة بمزيد من الاقتراض اعتبارا من يونيو/ حزيران الماضي. ومن المعروف أن المديونية قد تحل مشكلة السيولة إلى حين، غير أنها تأتي بالتضخم وتخفيض قيمة العملة الوطنية وارتفاع الأسعار وإضعاف القوة الشرائية للناس. ومما يعنيه ذلك أنه لا مخرج للعراق على المديين المتوسط والطويل الطويل سوى أن دير ظهره للاقتراض والاعتماد على حلول أخرى مستدامة تنهي حقبة الارتهان المفرط والجنوني على سلعة وحيدة يتحكم الخارج بسعرها ألا وهي النفط الخام. وهنا تكمن الكلمة السحرية وهي معروفة للجميع في تنويع مصادر الدخل من خلال إطلاق

طاقات  القطاعات الإنتاجية الزراعية واليناعات التحويلية والخدمات بالتوازي مع إنجاز مشاريع البنية التحتية المتعثرة خلال فترة زمنية لا تتجاوز خمس سنوات. غير أن مثل هذا التنويع يحتاج إلى إصلاحات اقتصادية جذرية ومؤلمة كتلك التي تضمنها "الكتاب الأبيض" الذي طرحته الحكومة العراقية أواسط أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ويأتي في مقدمة هذه الإصلاحات على سبيل المثال لا الحصر، تقليص الحجم الهائل للدعم الحكومي في مجالات كالكهرباء ومصادر الطاقة والسلع الأساسية، إضافة إلى خفض أجور القطاع العام إلى الحدود المتعارف عليها والتي يمكن للناتج المحلي تحملها. كما يتضمن الكتاب برامج خصخصة وإحياء للعديد من القطاعات الإنتاجية بهدف تخفيف الاعتماد على الاستيراد في بلد غني بموارد زراعية وبشرية أكثر من غالبية دول الشرق الأوسط.

غير أن السؤال هنا هل يستطيع العراق الدخول في عملية إصلاحات اقتصادية في ظل تجاذبات سياسية داخلية حادة من جهة، وفي ظل تدخلات إقليمية ودولية في شؤونه من جهة أخرى؟ ومن صعوبات تنفيذ أية مشاريع للإصلاح مساسها بمصالح رؤوس النخب الطائفية والسياسية المسيطرة. كما أن الوضع الداخلي لم يستقر بعد في ظل الاحتجاجات الشعبية ضد الفساد والبطالة، والتي يشارك فيها الشباب العراقي على نطاق واسع. الجدير ذكره أن نسبة العاطلين عن العمل في صفوفهم تصل إلى 36 بالمائة أو أكثر. وهكذا فإن حلحلة أو الخروج من الوضع الحالي امتحان عسير لحكومة الكاظمي والعراق ككل. وإذا كان "الكتاب الأبيض" خطوة في الاتجاه الصحيح، فإن الاتفاقات التي من شأنها استقدام عمالة رخيصة إلى العراق في هذا الظرف الصعب والابتعاد عن اتفاق التعاون الاقتصادي مع الصين لا تساعد على إيجاد مخرج ينقذ البلاد من انهيار اقتصادي وتقويض دعائم نظامه السياسي.

ابراهيم محمد